الحلقة الرابعة
استمرت رحلة العذاب تلك لأكثر من ثمان ساعات
تخللها مواقف مليئة بالتشاحن .. والسباب وتبادل النظرات الحادة!!
ولكن على العموم وصلنا لأبها.. بحمد الله سالمين..
ومن محطة الأجرة هناك توجهت لفندق أظن اسمه شمسان!!
أردت أن اتصل على البيت لأشرح لهم مقصدي مما فعلت..
وحتى لا يقوموا بالبحث عني فأنا قد خرجت من البيت بطوع أمري!!
حينما رن الهاتف كان المتحدث على الطرف الآخر هو الوالد..
كان الغضب قد أخذ منه مأخذا مهولا فقد شكل تصرفي خروجا صارخا على التقاليد والعادات الاجتماعية..
وقام الوالد بتوعدي وتهديدي بكل ما يخطر على البال..
وأنا لا ألومه رحمه الله في ردة فعله فقد كان تصرفي غير مقبول..
إنني أحكي تلك المواقف دون محاولة تبريرها أو الدفاع عن نفسي
فقد انقضت وولت تلك الأيام بحلوها ومرها .. والله الهادي..
حينما وضعت متاعي في الفندق وارتحت قليلا..
حاولت أن أتصل بعدد من أصدقائي وأصحابي ..
ولكنني لم أجرؤ أن أشرح لهم أين أنا وما هو وضعي..
فقد خفت أن يضعفوا أمام والدي وإلحاحه فيدلوه على مكاني..
أذكر أنني اتصلت على احدهم وخنقتني العبرة حينما سمعت صوته..
أغلقت السماعة دون أن أكمل حديثي معه..
كانت مشاعري متضاربة بين الخوف والرهبة والشعور بالضياع واليأس..
حاولت أن أنام في تلك الليلة ولكن بلا جدوى ..
كنت ممددا على السرير وانظر في السقف وتصيبني موجات من البكاء..
كانت تدور في مخيلتي عشرات الأفكار
ولكن مع توارد الخواطر أصطدم بالواقع المرير الذي أنا فيه..
ذهبت في اليوم التالي لجامع الشيخ عائض القرني..
حضرت درسه وكان في صحيح البخاري..
كان الحضور متواضعا للغاية..
هممت أن اطلب من الشيخ عائض جلسة خاصة لأشرح له وضعي..
ولكنني استحييت وجبنت..!!
سبحان الله أقطع مئات الأميال لأجله ثم حينما أقف أمامه أعجز عن حديثه..
لقد كان انفصاما في الشخصية وعجزا غير مبرر..
ولكن يظهر لي أن خوفي وارتباكي سبب لي صدمة تجعلني أفتقر للتعقل في القرارات !!
زرت المركز الصيفي في معهد أبها العلمي..
كان أغلب المشاركين في المركز ذوو أسنان تقل عني بكثير ..
كان استقبال المشرفين لي ومقابلتهم معي باردة للغاية..
لقد كنت ابحث عن شخص يؤويني من الضياع..
لقد كنت أريد شخصا عاقلا رشيدا..
أجلس بين يديه فأحدثه بما يعتلج في صدري من آلام وهموم جلبتها لنفسي بيدي!!
ولكن مشيئة الله تعالى وقدره جعلت هذا اللقاء متأخرا جدا ومع شخصية فذة!!
حينما شعرت أنني غير مرحب بي غادرت المركز ولم اعد إليه أبدا..
مكثت أياما أهيم في الأسواق وأتمشى في أماكن النزهة لأقضي الوقت..
تساءلت مرارا : هل هذا ما جئت من أجله؟؟
ألم أحضر لطلب العلم..
فكرت في النفقة فهي لا شك يوما ستنضب وبعدها ماذا سأفعل؟؟
لم أحاول الاتصال بالعائلة طوال تلك الفترة..
رأيت أن بقائي في أبها مضيعة للوقت والمال..
سمعت من قبل بأن الرياض هي مأوى أفئدة طلاب العلم.. من طلاب الجامعات والمعاهد فهي المركز الأول للصحوة الإسلامية..
وفيها من الدعاة والعلماء ما يعجز حصره..
ولا شك فهي أرجى من أبها في البحث عما جئت لأجله..
ويكفي هذه المدينة العريقة شرفا في ذلك الوقت ..
وجود سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فيها
وهكذا تغيرت الوجهة ولتكن من أقصى الجنوب إلى وسط المملكة..
توجهت لمكتب الخطوط واشتريت التذكرة إلى الرياض..
في جواري في الطائرة كان شخص ملتح عليه سيما الخير..
عرف نفسه باسم علي السلطان وهو من سكان القصيم..
تحدثت مع الأستاذ علي عن أمور كثيرة ..
وعرفت منه أنه من سكان عنيزة وهو معلم في المعهد العلمي ..
وهو أحد الطلاب في حلقة الشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليه العامرة بالطلاب والدارسين من كل بقاع العالم..!!
كان الحديث عابرا ولكنه أعطاني فكرة شاملة عن المنطقة..
وصلت للرياض ..
لقد كانت الرياض بالنسبة لي وأنا ابن المدينة الصغيرة كانت ذا شأن كبير في النفس..
فمبانيها الكبيرة وشوارعها الفسيحة ومساحتها الشاسعة تأخذ بالألباب..
نزلت في فندق البطحا وهو مكان أعرفه من قبل فقد رافقت الوالد له مرارا..
كان سعر الإقامة معقولا وبالجملة فقد كنت مقلالا في نفقتي..
مكثت عندهم في الفندق حوالي الشهر..
وما زال الاتصال حتى ذلك الحين مع العائلة مقطوعا ..
ومرة أخرى أعجز عن أن أتصرف تصرفا راشدا..
فأنا جئت من الأصل من أجل طلب العلم !!
ولكن يظهر أن حياة الدعة والراحة التي كنت فيها جعلتني انصرف ولو لفترة عن المقصود!!
لم يكن هناك شخص أو لم أبحث عن شخص يرشدني ..
كنت أقضي وقتي كله في الغرفة في الفندق أو في صالون الرياضة والمسبح..
لقد كنت صيدا يسيرا للضياع والمفسدين ولكن المولى جلت قدرته حماني..
ذات مرة كنت أمارس السباحة في المسبح..
فجاءني شاب نحيل من أهل البادية..
قال هل الماء عميق ؟؟
قلت لا .. وحسبته يعرف السباحة..!!
قفز من فوره في وسط الماء..
انغمس فيه ثم صعد..
ولكنه صرخ واستنجد بي لكي أخرجه فهو لا يعرف السباحة!!
التفت حولي لأنادي موظفي المسبح ولكن لا أحد..
أخذ الرجل يضرب في الماء ويخفق فيه ويشرب منه.. حتى كاد أن يهلك..
كنت مبتدئا في السباحة ولكن أين المفر..
ما إن اقتربت منه حتى تلني بشدة وسحبني ولطمني على وجهي!!
ثم غمسني بشدة في الماء وتخطاني ووضع قدمه على رأسي حتى خرج من الماء..
أما أنا فقد كدت أهلك حينها!!
ولم أحاول أن أنقذ غريقا بعدها أبدا...
لم يكن ذلك هو الموقف السيئ الوحيد..
ذات مرة حضر للمسبح شاب عليه سيما الخير ..
وكان برفقته عدد من الشباب الصغار..
لا اذكر مالذي حصل بيني وبينه لكن يبدو أن الرجل مريض مرضا نفسيا..
وتصيبه حالات من الهيجان فيضرب من حوله دون شعور..
وهذا ما حدث معي فقد هاج علي كالثور وضربني على وجهي ضربات كادت تقتلني.. وتركت بصمات على وجهي بقيت حتى حين...
لم يكن أحد ليجرأ على الدفاع عني فقد كان رجلا مفتولا والله حسيبه..
رجعت يومها لغرفتي في الفندق وهذه المرة موسوم بعلامات بارزة..!!
اتصل علي موظف الفندق وطلب مني الحساب..
نزلت إليه وسددت له مصاريف الأيام الماضية..
بقي في محفظة نقودي فقط مائة وخمسون ريالا...
وهو ما يغطي مصاريف يوم أو يومين!!!
posted by engomar @
10:11 AM 0 comments الحلقة الخامسة الحلقة الخامسة
حينما يكون الإنسان في عافية.. لا يشعر بالزمن وهو يمر عليه..
وهذا يكون من جهة نعمة ويكون نقمة عليه من جهة أخرى..
حينما نضب مالدي من نفقة .. ..
أدركت أنني وقعت في خطأ قاتل ..
فأنا أمام خيارين إما أن أعود للبيت وهذا مالم يكن واردا على الإطلاق حينها..
أو أن أحاول تدارك نفسي بأي وسيلة ممكنة!!
ولكن كيف ومع من...؟؟
مرت علي تلك الليلة كدهر فقد استغرقت في التفكير والبحث عن مخرج..
أعيتني الحيل وضاقت علي السبل..
توجهت للخالق سبحانه بكل صدق وإخلاص..
سألته سؤال المضطر ..
لم يكن في مخيلتي أي سبيل أو أي منفذ..
ولكن ثقتي به تعالى هي سبيلي الوحيد..
في اليوم التالي توجهت للنادي الرياضي
فقد شعرت بالاختناق من بقائي في الغرفة
كان النادي شبه خال على غير العادة..
وكانت الساعة الواحدة بعد الظهر تقريبا..
رأيت في حوض السباحة شخصا يحاول العوم بمشقة ظاهرة..
حينما رآني ابتسم ابتسامة عريضة.. وقال لي:
هل تعرف السباحة ؟؟
قلت له قليلا وأحذرك من التقدم إلى الماء العميق..!!
ابتسم وتهلل وجهه وقال إن غرقت ستنقذني أنت!!
ضحكت وقلت له ابحث عن غيري..
وحكيت له الموقف الذي مر علي قبل فترة من الزمن مع صاحبنا الأعرابي!!
سألني عن الكدمات التي على وجهي .. فقد كانت ظاهرة وعميقة!!
لم أرد أن استرسل في تفاصيلها .. فقلت له سقطت !!
عرفني باسمه وصافحني وقال أنا أخوك سعود المعاشي من منطقة حائل وأنا من قبيلة شمر.... هل سمعت بحائل وأجا وسلمى؟؟
عرفته باسمي ..
سألني عن عملي ..
قلت له أنا لا اعمل ..
قال لي أين تقيم ..؟
قلت له هنا في الفندق!!
قال ألست من سكان الرياض؟؟
قلت لا أنا من سكان الطائف!!
قال لي ماذا تفعل هنا في مدينة الرياض إذا ؟؟ هل تدرس ؟
قلت له أنا جئت لطلب العلم ..!!
قال وعند من تدرس من العلماء .؟
لم اجبه فأنا لم أبحث عن شيخ حتى تلك اللحظة..
لا أدري لماذا استرسل الأخ سعود معي في الحديث ولكنه أصر علي أن أرافقه للغداء سويا..
شكرته وتعذرت منه ولكنه ألح بشكل كبير حتى رضيت..
قال لي ونحن نمشي .. أنا أملك تسجيلات إسلامية في حائل ..
واعرف عددا من المشائخ في الرياض فإن كنت ترغب في أن أعرفك عليهم فعلت..!!
صمت ولم أجبه..!!
ونحن قعود ننتظر الغداء قال لي سعود:
أسمع أخي أنت لك قصة وأكيد لديك مشكلة وأنا اقرأ ذلك في وجهك!!
ولو ترغب في ذكرها لي ولا يحرجك الأمر فأرجو أن تخبرني بها ..
فما يدريك لعلي أستطيع مساعدتك ..!!
خجلت والله من كرمه وسماحة نفسه..
إن الأخ سعود حينما يقول لي هذا الكلام فهو رجل صادق غير متكلف أو متصنع..
ولقد اكتشفت بعد مخالطتي للأخ سعود أن معدن هذا الرجل معدن أصيل كالذهب ..
لقد كان الأخ سعود رحمة ساقها الله لي فإن مجرد إنصاته وسماعه لقصتي هو أمر يشكر عليه بارك الله فيه..
حدثته بمشكلتي وأنصت إلي لأكثر من ساعة حتى برد الطعام ولم يأكل منه شيء!!
لم يقاطعني طوال حديثي..
وحينما استكملت قصتي .. صمت قليلا ثم قال لي..
أسمعني جيدا ..
أنا رحلتي بعد قليل على حائل وسوف ترافقني للمنطقة وستكون في ضيافتي..
ومن هناك سوف نتدبر حلا لمشكلتك... ما رأيك؟؟
بالنسبة لي أنا لا أعرف الخ سعود ولكني كالغريق يبحث عن أي شيء ينقذه..
قلت له ثم ماذا ؟؟
قال ثق تماما سنجد حلا لمشكلتك موضوعك بسيط وسأجد له حلا..
أرجوك اصعد لغرفتك ووضب أمتعتك وانتظرني عند الاستقبال..
لم يعطني الفرصة- وقد تعمد هذا – حتى أفكر في الموضوع..
وحينما صعدت لغرفتي أخذت تجول بخاطري الأفكار:
ياترى هل الرجل صادق ؟؟
ماذا لو كان .؟؟؟
ولكن سيماه الخير !! أسئلة تتردد ولكن لا خيار لي !!
لم اخبر الأخ سعود بوضعي المادي.. ولكن كرمه غير المصطنع..
جعله يحاسب الفندق دون مشاورتي..!!!
طلب سعود من سائق التاكسي أن يسرع ..
فقد كان يعلم أنه ليس لدي حجز لمقعد في الطائرة..
وبعد قليل التفت إلي وقال :
إن سألك أحد من تكون فقل لهم أنك أحد أقربائي وتقيم في الطائف..
قلت له ولكن لقب العائلة ؟؟
قال لهم أنت فلان الشمري!!
قصد الأخ سعود من ذلك حمايتي من ألسنة الناس وتحقيقاتهم..
ولكن لقد دفعت أنا ثمن تلك الغلطة الشرعة والاجتماعية ثمنا غاليا..!!
وصلنا للمطار واجتهد الأخ سعود حتى حصل لي على مقعد في الطائرة..
كان الأخ سعود يلتفت إلي كل فترة ويطمنني بقوله: لا تقلق سوف تحل المشكلة..
لقد كنت متأكدا أن سعود ليس لديه عصى سحرية لحل وضعي..
ولكن طيبته وسماحته ورطته في هذا المقلب ..
وصلنا لمدينة حائل وكان منظر جبالها وهضابها يسحر الناظر..
يابعد حيي كلمة تسمعها عشرات المرات يوميا..
أهل حائل كرماء وأسخياء بشكل عجيب..
والطبيعة البدوية والفطر السليمة هي الغالب على الناس..
توجهنا فورا من المطار لمكان عمل الأخ سعود .. لأخذ بعض أوراقه..
اكتشفت أنه ضابط صف في المرور..
سلمت على أصحابه وعرفني لهم بأنني فلان الشمري!!
خجلت من ذلك أيما خجل فأنا لم اعتد على ذلك اللقب..
لقد كان ذكاء الناس الفطري وأسئلتهم البسيطة تكشف بسهولة بطلان هذا الانتساب ..بالإضافة للكنة الحجازية فقد كان الأمر برمته مفبركا !!
لم تعجبني الحال فلم اعتد الكذب ولكن إرضاء لمضيفي تغاضيت.. وصبرت
لاحظت أن في المنطقة أمنا عجيبا فالناس ينامون في بيوتهم..
ومفتاح السيارة على المقود..
هذا ما رأيته بنفسي في عدة مواقف..
تعرفت على إخوة سعود في منزله في حي المطار ..
كانا شابين نسيت أسماءهما
ولكن طيبة هذه العائلة والمواقف الجميلة التي عشتها في بيتهم
هي ذكريات عطرة تبقى معي أينما حللت..
منقول