الحلقة الثانية
الحلقة الثانية
كان لذلك المخيم أبلغ الأثر على حياتي وسلوكي..
ولا عجب إن لاحظتم معاشر القراء الكرام ..
تلك الحرب الضروس على تلك البرامج النافعة..
من أذناب الغرب والمدسوسين بيننا .. ممن ينعق صبح ومساء بما لا يعقل ..
فكل باب للخير والفضيلة ونشرها سعوا في درسه والقضاء عليه..
فلا شك أن لوطأتها عليهم شأنا لا يستهان به..
فهي تمد الأمة بروافد من العقول المخلصة لهذا الدين والأمة..
سلكت طريق الهداية واستمر هؤلاء الرجال ممن ذكرت وغيرهم..
في غرس الفضائل والمعاني السامية في، وفي آلاف الشباب..
الذين منهم الآن الطبيب والمهندس والمعلم والقاضي والصحفي والداعية والتاجر
التزمت بالمشاركة في برامج بالمكتبة في جامع ابن عمار بحي القمرية..
وكان يشرف علينا شخص اسمه خالد بن مسلط البقمي..
كان غاية في النبل والأدب والشهامة ..
ولكنه للأسف تغير كثيرا بعد أن انصرف للعمل في التجارة..
وآخر عهدي به إنسان عادي جدا لا تكاد الدعوة والعمل لها يأخذان من اهتمامه شيئا..
من المواقف التي لا تنسى مع أبي سليمان وهذه كنيته التي يحب أن نناديه بها حيث نظم لنا رحلة لمجموعة من طلاب المكتبة..
وكانت الرحلة لأحد الوديان الجميلة في منطقة الشفا جنوب الطائف..
كلفنا الأخ خالد بذبح الخروف وشويه في برميل ..
على الطريقة المعروفة في صنع المندي
ولكن لتأخر نضج الطبيخ بسبب قلة خبرة الطباخين..
لم يستوي اللحم سوى بعد أذان العصر..
صلينا العصر .. وبطوننا ترتل وتقرقر جوعا وتثيرها رائحة الشواء حولنا..
فالمنطقة مليئة بالمصطافين حينها..
استخرجنا اللحم وعزمنا على أكله حتى ولو لم ينضج جيدا فالجوع أبصر كما يقولون..
حينما وضعنا السفر واستوى اللحم على الرز المعصفر..
هطلت علينا كميات هائلة من الأمطار..!!
كأن حبات المطر تصب علينا صبا ..!!
لقد استغرق اجتماع السحب وتراكمها دقائق معدودة والله..
لم نشعر بذلك .. واستمررنا في التهام الطعام المبلول..!!
وفجأة صرخ الصريخ..
وتردد صداه في كل الوادي : السيل، السيل..!!
هجم علينا سيل من فم الوادي ..
حينما أبصرنا التيار يهدر نحونا ..
ولى الجميع ولم نلوي على شيء..
جرف التيار السيارات والأوادم.. ولكن الله سلم فقد تدارك الناس بعضهم..
أما السيارات فقد امتلأت بالوحل والطين حتى سقوفها ..
وأما نحن فقد كنا نراقب تلك المشاهد ونحن نرجف تحت الأشجار نرجف من البرد والجوع!!
هذا موقف أذكره جيدا من تلك الرحلات الممتعة..!!
تعرفت على شخص بعد ذلك اشتهر بكنيته وهي أبو أسامة..
واسمه عبد الله الغامدي ... وهو صاحب الإنشاد لقصائد الشريط المشهور هادم اللذات.... لمن يعرفه منكم..
وكان جارا لنا ، وهو رجل ذو همة عالية في الدعوة إلى الله ..
وما زال يعمل في الخطابة حتى كتابة هذه السطور..
لازمت هذا الرجل عدة سنوات كظله حتى ظن بعض الناس انه والدي!!
وكنت من شغفي به وعلاقتي القوية أحب تقليد صوته ومشيته وحركاته..
وأذكر مرة أن أحد المشائخ لحقني في السوق ظانا أن من يلحقه هو أبو أسامه!!
وكنت مقفيا وأسير بخطى سريعة فصار الرجل يناديني بغير اسمي فلا أرد عليه..!!
وحينما التفت إليه صدم برؤية شخص آخر غير من يبحث عنه..!!!
كنت حينها أبلغ الرابعة عشر من عمري تقريبا...
شاركت في البرامج الدورية للمكتبة يوم الأربعاء والخميس.. من كل أسبوع..
حتى ذلك الوقت كانت علاقتي بالوالد على مايرام..
فمستواي الدراسي في المدرسة فوق الجيد جدا ..
وللأسف فإن بعض الآباء جعلوا المقياس في نجاح أولادهم..
بمدى تفوقهم في دراستهم دون النظر في تميزهم في الجوانب الأخرى..
حينما التحقت بمدرسة هوازن الثانوية..
وكان النظام فيها النظام الشامل أو ما يسمى المطور.. الذي الغي لاحقا لفشله الذر يع..
كان هذا النظام يعطي حرية في الخيارات للطالب ..
في اختيار الجدول المناسب له كيفما يشاء..
وكذلك في اختيار المعلم الذي يرغبه..
لا شك أن هذا النظام والحرية الممنوحة لي كطالب ..
ساهم بشكل أو بآخر في تدني مستواي الدراسي..
فبسبب ارتخاء القبضة كما في النظام العادي ، وتدني الرقابة.. بسبب النظام صرت أغيب عن الدروس والمحاضرات في الفصل بمزاعم واهية..
في البداية ظن الوالد أن القضية هي مرحلة صعبة سأتجاوزها..
ولم يقدر الموقف حق قدره .. وليته فعل ..
لم يسبق لي أن رسبت في أي سنة ..
ولكن حصل أن حرمت في بعض المواد لا بسبب تدني المستوى بل للغياب..
حينما علم الوالد بذلك ظن أن السبب هو الرفقة لانشغالي معهم في برامج جانبية..
غير مهمة .. فالدراسة والمستقبل هي الأساس..
وبذلك صار الوالد يضغط علي للتقليل من روحاتي وخرجاتي..
كنت حينها مراهقا .. فاستمرأت أن يمنعني الوالد عما كنت أمارسه لسنوات..!!
فلم أطعه فيما يأمرني به..
الذي حصل أن الوالد بمشورة من قريب لي سامحه الله ..
قرر حرماني حرمانا مطلقا من أصحابي..
لقد كان ذلك بالنسبة لي أشبه بمنعي من شرب الماء أو تنفس الهواء..
لقد أعطى ذلك الحضر مفعولا عكسيا فقد تدهورت كثيرا في دراستي ولم اعد أذاكر دروسي ولو فعلت فإن ذلك يكون بالإكراه..!!
أذكر أن الوالد خوفا من أن ألتقي بأحد من رفقائي منعني مرة من صلاة الجماعة ..
ولم يستمر ذلك بطبيعة الحال ..
ولكن كانت تمر علي وجبات دسمة من الحظر كل فترة!!!
كنت محبا للعلم وطلبه ... وخاصة العلوم الشرعية..
التزمت بحلقة الشيخ أحمد بن موسى السهلي.. في جامع الأمير أحمد في درس عمدة الحكام .. وكذلك دروس الشيخ صالح الزهراني بجامع الشطبه ..
في كتاب زاد المعاد..
لكن المشكلة بالنسبة لي هي وسيلة المواصلات للوصول لهذا الأماكن..
ويعلم الله كم كنت أعاني لحضور تلك الدروس..
فكم مرة مشيت عشرات الكيلوات لأصل للدرس..
وكم مرة توسلت لجار أو صاحب ليوصلني..
لم يكن هناك رفيق لي لديه سيارة وملتزم بالحضور..
لقد كنت شغوفا بالعلم وأحرص أن أكون في أول الصفوف أمام المشائخ..
أذكر مرة أنني مشيت من بيتنا في حي السحيلي وحتى جامع الشطبه..
لكي أصلي الجمعة مع شيخنا!!!..
أما حضور محاضرات المشائخ المشهورين فهذا مالا أصبر عليه..
منعت من ذلك كله دفعة واحدة ...
حينها قررت أن أهرب من البيت لألتحق بطلب العلم لدى أحد العلماء..
posted by engomar @
10:20 AM 0 comments الحلقة الثالثة.. الحلقة الثالثة..
لم تكن فكرة الهروب من المنزل ومن الواقع الجديد الذي أجبرت عليه..
لم تكن فكرة جاءت على البال فعزمت عليها هكذا!!
بل كانت الفكرة تطبخ في رأسي عدة أسابيع حتى هممت بها ..
لم أجرؤ في استشارة أحد في الموضوع.. سوى شخص واحد..
إنها زوجة والدي الجديدة..
الخالة كما تسمى في بعض المجتمعات أما نحن فنناديها بالعمة..
هذه المرأة الطيبة تزوجها الوالد قبل عدة سنوات من ذلك الموقف..
وهي امرأة عقيم لم ترزق بالذرية ...
وكنت في تلك الفترة قريبا منها جدا وتثق بي وأثق بها..
وكانت تتلطف معي حتى كسبت ودي وتعاطفي معها..
وهي امرأة طيبة ومحبة للخير وتشجعني عليه..
أوغر ذلك صدر الوالدة علي في البداية..
ولكن العمة بفطنتها ونباهتها كسبت رضى أمي.. فسلكت الأمور على خير..
كانت العمة متعاطفة معي في محنتي .. وكنت أطلعها على كل أموري الشخصية تقريبا..
وحينما فاتحتها بالموضوع وأنني عازم على أن أخرج من البيت ..
لألتحق بحلقة عالم من علماء الأمة ..
وسوف أسحب ملفي الدراسي وأكملها..الخ الكلام..
لقد صورت المسألة لها بنرجسية عجيبة ..
هكذا بكل بساطة .. سأنجح وستكون الأمور على ما يرام..
وكانت أمرأه هينة لينة سهلة الإقناع.. فوافقتني..!!
بل قامت مشكورة وأعطتني من ذهبها فبعته وصرفت نقوده في سفري وترحلي..!!
لم يكن المبلغ كافيا فاستلفت من أحد كبار السن ممن يعرفني في المسجد مبلغا وافرا ..
والحمد لله أنه لم يسألني عن مقصدي من هذا المال!!
كانت الفترة حينها فترة إجازة صيفية ولكن الوالد سامحه الله أجبرني وبغير رضاي على التسجيل في فصل صيفي ..
وهو ما يسمح به النظام المطور..
رجوته وتوسلت إليه أن يعفيني من ذلك
ولكن بلا جدوى فقد أراد من ذلك معاقبتي على تقصيري في الفصل الدراسي السابق!!
والدي رحمه الله معروف في العائلة بأن لديه حاسة سادسة..
شك من تصرفاتي وهدوئي المريب والذي عرف بفطرته أنه سيسبق عاصفة ما..!!
فقد اعتاد أن يراني مهموما غارقا في التفكير في الأسابيع المنصرمة..!!
فشك في هدوئي واطمئناني المفاجئ!!!
ولذلك أمر الوالدة بالتحفظ علي ومنعي من الخروج خارج المنزل حتى للصلاة..
وأخذ بطاقة الأحوال الشخصية التي لي وصار يحملها في جيبه أينما حل..
حددت يوما معينا للهروب وكان يوم خميس.. ولا أذكر تاريخه بالتحديد..
ولا ادري لما اخترت هذا اليوم لسفري...!!!
جهزت حقيبة كبيرة ذات لون أحمر!!!
ولملمت فيها بعض ثيابي وملابسي واخترت مجموعة من الكتب..
وأخفيتها عن عيون أهلي لكي لا يكتشفوا الخطة..
كنت أتربص بالوالد حتى آخذ بطاقة أحوالي من جيبه..
ولكن مهابته العظيمة في قلبي جعلتني أتردد في فرص كانت مواتية..!!
طلبت من العمة أن تساعدني في ذلك فخافت من العواقب واعتذرت!!
صادف أن سافر الوالد مع إخوتي لجدة .. يوم الأربعاء الذي يسبق يوم السفر
.. فاغتممت من ذلك ..
وخفت من انكشاف أمري وما أنا عازم عليه..
فأنا لا أستطيع السفر بدون بطاقة أحوالي الشخصية..
لذا كان علي الانتظار حتى يقدم أبي من سفره..
سهرت طوال تلك الليلة أنتظر قدوم الوالد..
ووصل للبيت قريبا من الفجر...
وصعد مباشرة لبيت العمة .. ونام نوما عميقا..
حينما تأكدت من نومه ..
استخرجت حقيبة سفري .. ووضعتها أمام باب المنزل داخل الفناء..
ثم صعدت لبيت العمة..
العائلة كلها كانت تغط في نوم عميق ..
كانت الساعة حينها السابعة صباحا تقريبا..
وبهدوء وترقب...
دخلت لصالة المنزل فرأيت ثوب الوالد معلقا على الباب..!!
وكنت أعلم أن والدي توقظه أدنى حركة في المنزل ..
اقتربت من الثوب فسحبته بهدوء ثم فتشته..
فوقعت عيني على بطاقتي..
هممت أن آخذ شيئا من نقوده ولكنني خفت، وخيرا فعلت!!
نزلت من درج المنزل.. و حملت حقيبتي على ظهري..
كانت ثقيلة جدا والمسافة التي سأقطعها للشارع العام حوالي الكيلو متر..
كنت أسير وأتعثر لثقل الحقيبة وأنظر خلفي خوفا من الوالد..
لو رآني أحد الجيران وبتلك الحال فلا شك أنه سيرتاب ..
وعندها سيحدث مالا تحمد عقباه...
وصلت للطريق العام وأنا ألهث من التعب..
أشرت لسيارة أجرة وهي من نوع السوزوكي ونسميه في المنطقة ( الدباب)
سألني السائق عن وجهتي فقلت له خذني إلى موقف التكاسي المسمى موقف الجنوب..
وهو الموقف الذي يركب منه المسافرون لجنوب المملكة..
بحثت في الموقف عن الأجرة المتوجهة لمدينة أبها!!
كانت أبها حينها تعج بالدعاة والمشائخ المعروفين .. ومنهم الشيخ عائض القرني.. الشيخ عوض القرني.. الشيخ الطحان الشيخ سعيد بن مسفر وغيرهم وغيرهم من الدعاة وطلبة العلم..
لقد توقعت وبغير سؤال ودراية بأن هؤلاء المشائخ يستقبلون طلبة العلم القادمين للطلب .. فجئت مهاجرا إليهم أطلب العلم..!!!
لم يستغرق البحث عن سيارة أجرة متجهة لأبها سوى عشر دقائق..
وكنت في عجلة من أمري فما يدريني لعل الوالد تهديه حنكته فيتلني بتلابيبي!!!
كان السائق رجلا كبيرا في السن عمره يتجاوز الخمسين سنة..
ووجهة يدل على طيبته وضعف شخصيته..
كانت سيارته من نوع البيجو تحمل ثمانية ركاب..
كانت رفقتي مجموعة من الشباب ..
وهم من البادية وعلى ملامحهم الطيش والشر ..
وعرفت من احدهم أنهم ذاهبون للالتحاق بعملهم الجديد في الجيش في خميس مشيط
وحينما رأيت هؤلاء الشباب وتصرفاتهم الرعناء..
تذكرت ما حدثني به أخي الذي يعمل في نفس القطاع..
عن اللواء (وذكر رقمه ) في خميس مشيط..
وهو لواء سيء الذكر قد انتشرت بين شبابه المخدرات والتصرفات المشينة..!!
وحينما انطلقنا في مسيرنا الطويل لأبها..
ارتحت كثيرا وتنفست الصعداء..
غير أن سروري لم يدم طويلا فهؤلاء الشباب لن يسلم هذا المطوع الصغير من شرهم..
كانت النظرات من عيونهم تقذف الشرر علي..
فهذا المطوع الصغير لا بد أن يكون سببا للمشاكل في الطريق..!!
حاولت أن أكون لطيفا معهم وبعيدا عن الاحتكاك بهم ولكن هيهات!!
انشغلت بالحديث مع السائق وكنت محشورا بجواره...
وبعد مرور نصف ساعة من الرحلة تقدم أحد الشباب وأشار بشريط كاسيت أغاني وأمر السائق بإدارته!!
علمت أن سكوتي ضعف أمام المنكر ..
فقلت للسائق وبحماس ظاهر.. لا تشغله لا يجوز..
كان هذا التصرف مني إعلانا للحرب بالنسبة لهؤلاء السفهاء..!!
والظاهر أن الحركة كانت متعمدة لإثارتي وقد فعلوا!!
كانوا سبعة وأنا واحد والسائق كان يمكنه التصرف ولكنه رجل ضعيف الشخصية
قال لي هل لديك شريط قرءان أو محاضرة ..؟؟
قلت لا .. قال إذا خلهم يسمعوا ما يريدوا ..
قلت له هذا لا يجوز وحرام..
قال إذا ارجع للخلف ولا تستمع للغناء ..
رضخت لهم فقد كان هو وأنا أيضا نخاف من هؤلاء الفتية!!
تخطيت القوم ورجعت للمقعد الأخير برفقة أحدهم!!
وبدأت مزامير الشر والطرب تصم الآذان..
وكان الشباب يتمايلون ويرقصون طربا وضحكا ..
أما استنشاق دخان السجائر فحدث ولا حرج ..
لم يشغلني هذا الحال عن التفكير مما سأقدم عليه من أهوال
يتبع